16/05/2015 - 17:16

محافظون هنا، ومحافظون هناك/ نمر سلطاني 

ما أريد أن أركّز عليه هنا هو التشابه بين العديد من المواقف الأساسية للمحافظين هنا والمحافظين في الغرب، بما في ذلك النقاشات الدينية. وهذا صحيح بشكل خاص في أميركا بالذات، لأن صعود التيار المحافظ والمدّ الديني هناك مشابه لصعوده في العالم الع

محافظون هنا، ومحافظون هناك/ نمر سلطاني 

النقاش حول إلغاء الماراثون النسائي في الطيرة يثير العديد من القضايا. على سبيل المثال، كلما عارض المحافظون عندنا موقفًا اجتماعيًا ما، وخاصة ما يصنّفونه بالعلمانيّ، تجدهم يقولون إنه غريب عن عاداتنا وتقاليدنا وأنه دخيل علينا ومستورد من الغرب. إذًا، هذا طعن في أصالة وشرعية المواقف والآراء التي يعارضونها. لكن ماذا عن 'أصالة' المواقف المحافظة؟ وأقصد بذلك أن أسأل هل هذه المواقف المحافظة تختلف جذريًا عن المواقف المحافظة الغربية؟ 

منذ بزوغ الفكر المحافظ كنظام فكري واضح المعالم كردّ فعل على الثورة الفرنسية وهو يحتوي على تيارين: الأول يشدّد على التقاليد والعادات والحكمة الكامنة فيما توارثه الأبناء عن الآباء (ويمثّله الإيرلندي إدموند بورك)؛ والثاني يشدّد على الفكر الديني للتشبث بالنظام القائم وشرعنته (ويمثّله الفرنسيّ جوزيف دي مايستر). وما زال هذان التياران بارزان في الفكر المحافظ في يومنا هذا مع اختلاف التجليات العينية لمواقف حامليهما. 

ولا عجب أنّ هذين التيارين يبرزان في العالم العربي أيضًا. فالعديد من المحافظين، كما أسلفت، يمتشقون سلاح الماضي ضد مساوىء الحاضر ومخاوف المستقبل. ويرون في السلف الصالح قدوة ونبراسًا منيرًا للظلمات. ويفصلون ما بين تقليد جيد يرتاحون فيه وتجديد سيء يخافون منه. ومن الجليّ أن هذا الاستعمال للماضي هو أيديولوجيّ بمعنى الاختيار والانتقاء ضمن نظام فكري لتبرير رؤية العالم بشكل ما. وينضاف إلى ذلك عند المتدينين المنظومة المعرفية الدينية لتفسير الكون وموقع الإنسان فيه. وترافق هذه المنظومة المؤسسات الدينية والاجتماعية التي تلعب دورًا تثقيفيًا وتأديبيًا تجاه أفراد المجتمع. 

ما أريد أن أركّز عليه هنا هو التشابه بين العديد من المواقف الأساسية للمحافظين هنا والمحافظين في الغرب، بما في ذلك النقاشات الدينية. وهذا صحيح بشكل خاص في أميركا بالذات لأن صعود التيار المحافظ والمد الديني هناك مشابه لصعوده في العالم العربي ما بعد الستينيات. وما زال التديّن في أميركا أبرز منه في أوروبا. فرغم فصل الدين عن الدولة دستوريًا نجد الرموز الدينية على العملة الرسمية ويوم العطلة الرسميّ، وكذلك نجد النص الدينيّ في افتتاح جلسات الكونغرس، وما إلى ذلك. وهؤلاء المحافظون والمتدينون ليسوا هامشيين فبعضهم قضاة في المحكمة العليا الأميركية. كما ساهموا بإيصال جورج بوش الإبن (وهو نفسه متدين) إلى سدّة الحكم. 

فما هي أهمّ أوجه التشابه؟ 

أولاً، تشابه في المضمون. المحافظون في الغرب مثل المحافظين عندنا يتباكون على القيم الجمعية وخاصة قيم العائلة التقليدية بما في ذلك أنماط الزواج والعلاقات المقبولة. كما يعارضون بشدة الإجهاض. ويطالبون بتقييد حرية التعبير للحدّ من الإباحية. 

ثانيًا، المحافظون هنا وهناك يشدّدون على التعليم والمدارس. فمثلاً يطالب عندنا البعض بفصل الذكور والإناث في التعليم المدرسي. وفي أميركا تطالب الحركات اليمينية المتدينة بإدخال الرموز والطقوس الدينية إلى المدارس (مثل تعليق الوصايا العشر في الصفوف والصلاة اليومية في طابور الصباح) وأيضًا في الحيز العامّ (مثل الساحات العامة أمام البلدية أو المحاكم). أما بالنسبة لفصل النساء عن الرجال فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريرًا مطولاً منذ حوالي الشهر عن اليهود الحريديين الذين يعطّلون مواعيد إقلاع الطائرات مرارًا وتكرارًا لرفضهم الجلوس بمحاذاة نساء. 

ثالثًا، أجزاء لا بأس بها (ليس الكلّ طبعًا) من المحافظين هنا وهناك مستعدة للجنوح للعنف لتحقيق أهدافها. ففي الثمانينيات والتسعينيات لجأت العديد من المجموعات الأميركية إلى العنف والقتل ضد الأطباء والعيادات التي توفر الخدمات لمن يرغبن بالإجهاض. وقام تيموثي ماكفي بتفجير مبنى في أوكلاموها سيتي عام ١٩٩٥ قاتلاً العشرات ردًا على مقتل العشرات في عام ١٩٩٣ في واكو في تكساس عندما حاصرت القوات الفدرالية مجموعة دينية متطرفة تسمي نفسها الدافيديين. 

رابعًا، هناك تشابه أيضًا في المنهج الدينيّ رغم اختلاف السياق. فهناك تشابه في بنية النقاشات ما بين الكاثوليك والبروتستانت، ومثلها عند الفرق اليهودية، وبين النقاشات بين الفرق الإسلامية. فمن ناحية هناك هؤلاء الذين يفضّلون التفسير الحرفي للنص المقدس، والآخرون الذين يحاججون من أجل اتباع التفسير الذي يعتمد على السياق ومستجدات العصر. 

خامسًا، هناك أيضًا تشابه من ناحية الخطاب الديني والحجج التي يسوقها أصحابه. بل نجد أن بعض الادعاءات هي طبق الأصل. فمثلما يقول بعض الكاثوليكيين الغربيين أن كل الاكتشافات العلمية تمّ استباقها في الإنجيل؛ يقول أيضًا الإسلاميون إن القرآن يحتويها جميعًا ويطلقون على ذلك عنوان الإعجاز العلمي للقرآن. وإشكالية مثل هذه الإدعاءات واضحة. فالعلم دائم التطور والتبدل مما يعني ضرورة تعديل التفسيرات الدينية مع الوقت. 

سادسًا، الجانب الدعويّ حاضر أيضًا في الحالتين. فمن يجول هذه الأيام في لندن يجد أن المتدينين يوزعون المواد الدعائية على مدخل الكثير من محطات القطار الأرضي. ومن يعيش في أميركا، تحديدا في الجنوب، قد يصادف المورمونيين  ببدلهم السوداء. ومثلما هم معروف، يمارس المورمونيون تعدد الزوجات كما يمارسه البعض من المسلمين.   

سابعًا، مثلما يخاف المحافظون عندنا على نقاء هوية المجتمع من العوامل الدخيلة والغريبة، كذلك يفعل المحافظون في الدول الغربية. وجزء أساسي من هذا العداء والخوف موجّه تجاه المسلمين.  

ثامنًا، انتشار الخطاب هنا وهناك ليس مرده قوة الحجة العقلية أو البرهان. سبب هامّ لهذا الانتشار هو الدعم الماديّ من قبل القوى المحافظة. فمثلما تدعم دول الخليج وفي مقدمتها السعودية نشر الفكر الوهابيّ والسلفيّ عمومًا (إن كان ذلك بتمويل المدارس في باكستان أو دعم أحزاب في مصر أو دعم حركات مسلحة في سوريا وقبل ذلك أفغانستان)، كذلك يدعم أغنياء يمينيون في الغرب جمعيات محافظة. فمثلاً يتبرع الأخوة كوخ (تلفظ كو) بمئات الملايين من الدولارات لجمعيات لنشر 'المبادىء الإنجيلية' وفي مقدمة ذلك جمعيات معادية لحقوق المرأة 'وللفساد الليبرالي'.             

ليس الهدف من هذه القائمة المختصرة القول إن التيار المحافظ ليس تيارًا أصيلاً في المجتمعات العربية. ففي نهاية الأمر، تصبح الأصالة سلعة في نقاش أيديولوجي. وبالتالي لا معنى محدد لها. ولكنّ هذا التشابه يثير عدّة أمور: أولاً، المواقف التي يعبّر عنها التيار المحافظ والديني هنا ليست حكرًا عليه ولا هي خاصة بالعرب ولا بالإسلام. وبالتالي يعبّر عنها المحافظون بطرق عديدة ويستخدمون نصوص وأديان مختلفة لدعم مواقفهم. لذا من الأفضل عدم تسخير الدين لخدمة هذا النقاش.  

ثانيًا، ليست الأصالة أو انعدامها هي المشكلة. لذا، يجب التوقف عن إتهام غير المتدينين أو غير المحافظين بكونهم يستوردون مواقفهم. هذا لا ينفي طبعًا تأثير الغرب والتاريخ الإستعماري علينا ولكن هذا التأثير حاضر عند المتدينيين مثلما هو حاضر عند العلمانيين. سلبًا وإيجابًا. حيث يقوم المتدينون المعادون للغرب وللعولمة بترويج الدين من خلال استعمال أحدث التقنيات الغربية.

ولكنّ الأهمّ من ذلك أن التصنيف الذي يقوم عليه النقاش ما بين غرب وشرق يفترض هويات منفصلة. في حين أن هذه الهويات فضفاضة ومتداخلة اللهم إلا إذا نظرنا إليها أيديولوجيًا. وهذا الاستعمال الايديولوجي متناقض مع إدعاءات المحافظين عمومًا والمتدينيين خصوصًا. فهم يتفاخرون بالتأثير العلمي والفكري العربي على الغرب. ومن ناحية أخرى يتباكون على التأثير الغربي علينا. وهذا التأثير المتبادل يدلّ على التداخل، لا التناقض والاستقطاب. بطبيعة الحال، التأثير الغربي أشدّ وطأة ولكن هذا نتاج لعوامل سياسية واقتصادية وتكنولوجية. ومن وهم سياسات الهوية أنه بالإمكان مواجهة ذلك بمجرد التركيز على القيم والهويّة الثقافية. وبذلك يتمّ إهمال العوامل الموضوعية. ولكن هذا موضوع آخر.

التعليقات